كانوا فقراء , يعملون في الأرض من الفجر حتّى الغروب من أل الحصول على كسرة خبزٍ و لبن يقيتون به عائلاتهم , لم يروا في حياتهم إلّا الشّقاء لكنّهم كانوا سعداء , وكانت سعادتهم تكمن في أملهم . لم ييأسوا يوماً طالما لديهم كرامة , نعم كانوا فقراء , لكن فقراء أحرار ...
كانوا يعيشون في قرية متواضعةٍ على سفح جبل . وكانت في القرية امرأة عجوز ينادونها " أم عماد " ... كانت في العقد السابع من العمر , قصيرة القامة , ذات شعرٍ قصير قد غزاه الشّيب , وعينين سوداوين تزدادان اسوداداً لكثرة ما تراه من ظلم .
كانت تعيش داخل كوخٍ صغيرٍ على على حدود القرية , مع زوجها البالغ من العمر الخامسة والثمانين . وكان "أبو عماد" – أي الزوج – عجوزاً ببنيةٍ قويّةٍ , عريض المنكبين , مفتول العضلات , يعيش , كما جميع الرّجال , على إعالة عائلته من خلال العمل في الأرض .
كان , في كلّ يومٍ من الأيّام , يستيقظ عند الخامسة صباحاً , يلبس شرواله الأسود , يعتمر طربوشه , يخرج من الكوخ , يطرق الباب بقوّةٍ لتستيقظ على صوته أم عماد ثمّ يركض مسرعاً نحو الحقل وهو يقهقه ويضحك بصوت عالٍ .
عند الوصول , يجلس تحت شجرة الزيتون , يضع طربوشه بجانبه , يتناول فطوره ويهمّ بالعمل ... وكانت زوجته كثيراً ما تأتي لتزوره أثناء عمله , فتجده نائماً تحت الشجرة نفسها , مخفياً وجهه بطربوشه , يملأ المكان شخيراً , وكما كانت تقول دائماً :
" كان شخيره يملأ القرية كلّها ... وأذنيّ "
وعند السّابعة من كلّ يوم , ينهي عمله , وبعود إلى الكوخ , فيتناول الطّعام و يغفو , هكذا كانت حياته ..
بالمناسبة , أذكر أنّي قد ذكرت كلمة " الكرامة " في المقدّمة ... أنا لم أذكرها عبثاً , فللكرامة داخل هذه القرية قصّةً ليست كغيرها من القصص , سأرويها لكم :
ذات اليوم , خرج أبو عماد من منزله متّجهاً نحو الحقل , وكالعادة , فعل كما يفعله كلّ يوم , فنام وعمل وأكل .. أثناء قيلولته , سمع صوتاً غليظاً يردد متلهّفاً : " يا أبو عماد , قم بسرعة , إنّ في القرية أغراباً يريدون احتلالها " .. استيقظ العجوز على الصّوت , وقف منتصباً , تمالك نفسه ثمّ حمل معوله وتوجّه نوح ساحة القرية حيث تجمّع الرجال , وبيد كلّ منهم ما تيسّر له من أدواتٍ ليقاتل بها , وأمامهم اسطفّ الأغراب وفي أيديهم بندقيّاتهم .
وفي مكانٍ آخ من القرية , كانت العجوز الشّيخة تجابه مرضها الّذي طرأ عليها فجأةً دون تعي ...
إذاً , وصل أبو عماد إلى ساحة القرية , تقدّم جميع الرجال ووقف مقابل الأعداء , نظر في وجوههم متمعّناً, ثمّ أشار بيده إلى رجال القرية , فتأهبوا جميعاً وفي إشارة أخرى , هجموا وبدأت المعركة . لا أذكر ما حصل وقتها , لكنّني أذكر أنّ صوت الرصاص تعالى في الجوّ , و أن جثث جميع رجال القرية كانت ممدّدةً على الأرض وبينها سيولٌ من الدّم الأحمر القاتم , تتجمّع كلّها في مكان واحد , عند جثّة أبو عماد .
صارت السّاعة الثامنة والنّصف , والعجوز لم يعد بعد إلى الكوخ ... قلقت أم عماد عليه وهمّت بالذّهاب لتفقّده . وصلت إلى الحقل , لم تجد أحداً . رأت طربوشه يحتلّ مركزه المعتاد تحت شجرة الزّيتون , لكن لم تر زوجها ... أهلك المرض جسدها فتداعت على الأرض , زحفت نحو شجرة الزيتون , بينما روحها تتصاعد , حملت الطربوش بين يديها , وألقت جسدها على جزع الشجرة , رأت خطوطاً من النور بلونٍ بين العسجد والحمرة تنبثق من بين أوراقها , شدّت يديها على الطربوش , ألقت بناظريها نحو الشّرق ثمّ أغمضت عينيها وغفت .
وانفصلت الروح عن جسدها وتطايرت فوق ساحة القرية , تنظر في وجوها الشهداء النّضرة , الطّاهرة , وضحكة أبو عماد ما زالت تتعالى في الأجواء , يلازمها صوت يردّد أبداً :
" كانوا فقراء , فقراء أحرار ..... وماتوا بكرامة ! "